السمو
الشيخ الدكتور عائض بن عبدالله القرني
المقدمة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله ومن والاه ، وبعد:
فإن علو الهمة وسمو الروح مطلب شرعي ومقصد إنساني، أجمع عليه العقلاء، واتفق عليه العارفون ، والمطالب العالية أمنيات الرواد، ولا يعشق النجوم إلا صفوة القوم ، أما الناكصون المتخاذلون فقد رضوا بالدون ، وألهتمهم الأماني حتى جاءهم المنون ، فليس لهم في سجل المكارم أسم ، ولا في لوح المعالي رسم. وقد أردت بكتابي هذا إلهاب الحماس، وبث روح العطاء ،وإنذار النائمين بفيالق الصباح، والصيحة في الغافلين ، وقد قلت لقلبي وأنا أرسله بكتابي: )اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إليهمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) (النمل:28) .
فيا أحفاد الفاتحين ، ويا سلالة الأبرار ، ويا بقية الأباة، حانت الانطلاقة الكبري والوثبة العظمي، وقد عرضت سفينة النجاح ، ونادي منادي الفلاح: ( ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ)(هود: من الآية42).
فهل من سامع وهل من مجيب ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله نبدأ
اللهم لك الحمد لكن أجله وأعظمه ، ولك الشكر لكن أحسنه وأجمله، ولك الثناء لكن أكمله وأتمه، ولك المدح لكن أبلغه وأحلاه، والصلاة والسلام على الصفوة المصطفي، والأسوة المرتضي، والسيف المنتضي، وأديت حقوق ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على نهجه، واقتفي أثره إلى يوم الدين.
لماذا السمو؟
اخترت لكم هذا العنوان ليوافق سموكم، ويناسب قدركم، ويحيي جهادكم ، ويهتف بسجاياكم، ولأنكم من أهل ( السمو) أحببت أن أحدو لكم حداء الأبطال، وأن أتحفكم يا صفوة الرجال، لتسافر الآمال ، الى أفاق الجلال، ولأنكم أبناء الفاتحين، وأحفاد المجدين، وسلالة القادة، وبقية الأبرار، حرصت على إلهاب هممكم الماضية، والاشادة بهاماتكم العالية، وعزائمكم السامية :
فتالله لو أن السماء صحيفة
بها الشكر يروي والثناء يرتب
وأشجارنا الأقلام والبحر حبرنا
ونحن طوال الدهر نملي ونكتب
لما بلغوا في كنه شكرك درة
ولو دبجوا فيك المديح وأغربوا!
* * *
تحية السمو
هذ مقطوعة ، المسك من أريجها فواح، والبلبل من نغمتها صداح، نهديها الى أهل الصلاح والفلاح والنجاح:
كل شهم منكموا رمز فتوة
السما تروي الى الأرض سموه
همم لو أن للدهـــر بها
معهداً لم يملك الدهر عتوه
غيركم في لهوه قد جمحت
نفسه يهوي بها سبعين هواة
وأراكم صفوة صادقة
فيكم الحق وآثار النبوة
دعوة بل صحوة بل وثبة
في صفاء ووفاء وأخوة
ولأنكم أهل الصلاح والفلاح، وأحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلى ، ومنكم خالد وعمرو وسعد والمقداد، ومنكم المجدون والمصلحون، قلنا لكم في بطاقة سلام:
حيث الشهامة مضروب سرداقها
بين النقضين من عفو ومن نقم
وللرسالة أنوار مقدسة
تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم
وللأخوة آيات تنص لنا
على الخفين من حكم ومن حكم
وللمكارم أعلام تعلمنا
مدح الجزيلين من بأس ومن كرم
وللعلا ألسن تثني محامدها
على الحميدين من فعل ومن شيم
برقيات عاجلة
يا أصحاب سمو المعالي إلى العزيز العالي جل في علاه، بإيمانهم وجهادهم وصبرهم ودعوتهم:
لما أنذر النمل وحذر ودعا بني جنسه سطرت في حقه سورة من سور القرآن ، فخذوا من النمل ثلاثاً: الدأب في العمل، ومحولة التجربة، وتصحيح الخطأ.
لما أكمل النحل طيباً ووضع طيباً، أوحي الله إليه وجعل له سورة باسمه في الذكر الحكيم ، فخذوا من النحل ثلاثاً: أكل الطيب، وكف الأذي، ونفع الآخريت •
لما تجلت همة الأسد وظهرت شجاعته سمته العرب مائة أسم، فخذوا من الأسد ثلاثاً: لا ترهب المواقف، ولا تاعاظم الخصوم، ولا ترض الحياة مع الذل.
لما سقطت همة الذباب ذكر في الكتاب على وجع الذم ، فاحذروا ثلاثاً في الذباب: الدناءة، والخسة، وسقوط المنزلة.
لمل هزت العنكبوت وأوهمت بيتها ضربها بيتها مثلاً للهشاشة، فاحذروا في العنكبوت ثلاثاً عدم الإتقان ، وضعف البنيان، وهشاشة الأركان.
ولما تبلد الحمار ضرب مثلاً لمن ترك العمل ولم ينفعه ، فاحذروا ثلاثاً في الحمار: البلادة، وسقوط الهمة وقبول الضيم.
ولما عاش الكلب دنيئاً لئيماً ضرب مثلاً للعالم الفاجر الغادر الكافر فاحذروا ثلاثة في الكلب:
كفر الجميل وخسة الطباع ، ونجاسة الآثار .
وحمل الهدهد رسالة التوحيد فتكلم عند سليمان، ونال الأمان ، وذكره الرحمن، فخذوا من الهدهد ثلاثة : الأمانة في النقل، وسمو الهمة، وحمل هم الدعوة :
والهدهد احتمل الرسالة ناطقاً *** أهلاً بمن حمل اليقين وسلما
قال أبو معاذ الرازي: مسكين من كان الهدهد خيراً من !!.
وإذا أتى جعفر الطيار بجناحين، ودعى أبوبكر من أبواب الجنة الثمانية: وكلم عبد الله بن عمرو الأنصاري ربه بلا ترجمان ، وتوكأ عبد الله بن أنيس على عصاه في الجنة ، ودخل بلال قصره..
فبماذا تأتي أنت ؟ وماذا أعددت؟ وما بضاعتك؟!:
فيا ليت شعري ما نقول وما الذي..
نجيب به إذ ذاك والخطب أعظم؟!
نفوس سمت شوقاً إلى الله
تعال بنا نسافر مع أدب لكن صادق ، ومع شعر لكن مؤمن، ومع قافية لكن مسلمة:
وقف مجاهد مؤمن في عصر الصحابة على جبال الأفغان على مشارف كابل فقال:
أيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت
على شرجع يعلو بحسن المطارف
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة
يصابون في فج من الأرض خائف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى
وسروا الى موعود في الصحائف
يقول: يا رب ، لا تعدني الى غرفتي الضيقة ، الى سريري المشرجع بالمطارف ، الى زوجتي الجميلة، لكن قطعني في يبلك إرباً .. إرباً ! وهذه الجمل النادرة تجدها في أبجديات الموحدين، وفي دواوين المخلصين فقط، يقولها أحدهم مستلهماً جلال اللع وعظمته ، ثم تفيض دموعه، ثم يقول: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضي!!.
والبراء بن مالك سميت روحه الى الواحد القيوم فاضطجع على ظهره ووضع رجله اليمني على اليسرى، ورفع عقيرته بالنشيد، فقال له أنس: أتنشد وتغني أنت من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام؟ فقال له أسكت، فوالله الذي لا إله إلا هو ، لقد قالت من الكفار مائة مبازرة، ووالله الذي لا إله إلا هو لأموتن شهيداً!..
لماذا يقسم؟!..
لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال فيه وقد رآه بذ الهيئة، رث الثياب : (( رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك)).. فأقسم على الله يوم (تستر) أن يقتل شهيداً فقتل شهيداً!.
وعمر بن عبد العزيز سمت روحه يوم تولي الخلافة ، جلس على المنبر الدمشقي ليحكم ثنتين وعشرين دولة إسلامية ، ففاضت دموعه وبكي وأجهش الناس بالبكاء ، قال المحدث الرواية الثقة رجاء بن حيوه: والله لقد كنت أنظر الى جدران المسجد هل تبكي معنا!.
وفي حلية الأولياء عن سفيان قال : قال عمر بن عبد العزيز : كانت لي نفس تواقة، فكنت لا أنال منها شيئاً إلا تاقت الى ما هو أعظم ، فلما بلغت نفسي الغاية ، تاقت الى الآخرة !. هذا هو السمو..!
ومن أبجديات السالكين قولهم على لسان عبد اله بن رواحة وقد تمني الصحابة عودته سالماً، قال:
لكنني أسال الرحمن مغفرة
وطعنة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة
بحرية تنفذ الأحشاء والكبدا
حنى يقال إذا مروا على جدثي
أرشده الله من غاز وقد رشدا
فقتل في مؤتة، وقبره هناك ، ولكن سريره دخل الى جنات النعيم، ورآه رسول الهدي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعينه.
والعباد أيضاً يشاركون مع المجاهدين في سمو الهمة ، فأما أحدهم وهو عباد بن عبد الله بن الزبير ، فيقول : اللهم إني أسالك الميتة الحسنة، قالوا : ما هي؟ قال : أن يتوفاني ربي وأنا ساجد ، فقبض الله روحه وهو ساجد في آخر سجدة من صلاة المغرب، وقس على ذلك قوله صلي الله عليه وسلم في حديث حسن لعمر وقد رآه لبس ثوباً أبيض ، فقال له: (( ألبس جديداً وعش حميداً ، ومت شهيداً))، فرزقه الله سمواً في الدنيا : عدلاً في الرعية، رحمة بالأمة، زهداً في نفسه ، ثم توفاه شهيداً في المحراب، وعلى ذلك سار السلف، حتى إنه في ليلة من ليالي أهل السمو العلمي كان إسحاق بن منصور (تلميذ أحمد بن حنبل ) في خراسان، فرجع بعد ما روى الحديث سبع سنوات وكتبه في قراطيس ، فأمطرت السماء في الليل ، فوضع الكتب والدفاتر تحت بطنه واحتضنها والبرد يصب على ظهره ، والمطر البارد يغطي جسده، والريح تسف على وجهه، وهو يحتضن دفاتره لئلا تمسح بالماء بعد رحلة سبع سنوات ، عاش طويلاً ومات ، فرآه أحد الصالحين في الجنة ، قال : ما فعل الله بك ؟ قال: غفر لي بليلة المطر يوم انحنيت على الدفاتر وحضنت أوراقي .
وأنظر الى بعض الصالحين يرسل نشيده الى الواحد الأحد لكن ينظمه بحبات قلبه ، يبدأ بالنثر فيقول كلاماً معناه:
يا ربي ، إن أحب كثير عزة، وأحب غيلان مية، فاجعل حبي فيك يا ربي، وإن أحب عنترة عبلة، وأحب فلان ليلي، وأحب الآخر سلمي ، فاجعل حبي لك وحدك، ثم نظمها شعراً فقال:
إذا كان حب الهائمين من الورى
بليلي وسلمي يسلب اللب والعقلا
فماذا عسي أن يصنع الهائم الذي
سري قلبه شوقاً الى العالم الأعلى ؟
أف على الوتر!.. أف على الغناء !. أف على الضياع ! أف على حياة اللهو والغرام والهيام إن لم تكن المحبة للواحد العلام ، الذي بني دار السلام ، فلماذا انتهي من بنائها قال : ( تكلمي وعزتي وجلالي ، قالت: )قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:1،2) قال : (( وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل )) !
هذه مسيرة الصالحين ، ولكن ينحرف بعض الناس الى هواه، الى العيون السود ، الى الخدود ؛ يقول ابن زريق في بغداد وهو هائم بامرأة:
لا تعذليه فإن العذل يوجعه
قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه
ثم يقول: آه ، ثم يموت !!.. ولكن (مسلماً) صاحب الصحيح ، الذي قدم لنا ميراث محمد عليه الصلاة والسلام، العالم الرباني، بات ليلة كاملة يبحث عن حديث للرسول عليه الصلاة والسلام ، ولم ينم، فلما صلي الفجر: آه..آه..آه، ثم مات، فقيل : شهيد الحديث!، والنابلسي المحدث العالم الزاهد الذي أفتي بفتوي شجاعة في الفاطميين المنحرفين الكفرة ـ عند كثير من أهل العلم ـ قال: من عنده عشرة سهام فليرم الفاطميين بتسعة والنصارى بسهم، فطعنه يهودي بالخنجر ، قال الذهبي : كان دمه يتصبب في الأرض وهو يقول : الله .. الله .. الله..!.
سؤال نقدمه لأهل السمو ، وأهل العزائم والهمم:
قالوا : الهوي والحب هل تحنو له
أم أنت في أرض الهوي متجلد
قلت: المحبة للذي صنع الهدى
فحبيب قلبي في الحياة محمد
اللهم اجعله حبيبنا بعد حبنا لك ، يقول عمر بن عبد العزيز وروحه تسافر في مجمع من الناس وقد حدثته بالخلافة وهو زاهد عابد ، قال : قام فينا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في المدينة على المنبر ونحن جلوس أمامه ، وقد تولي الخلافة ، فقال: من أولي مني بالخلافة ، قال : فحللت حبوتي لأرد عليه وأقول : أولي منك المهاجرون والأنصار!، فتذكرت قوله سبحانه وتعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً ) (القصص: الآية83)، فجلست مكاني!!.
* * *