بسم الله الرحمن الرحيم
الســلام عليكم ورحمة الله وبركاتــه
الحمد
لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا،
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله
عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، وكل من اتبعه وتمسك بسنته إلى يوم الدين .
أما بعـــــد
فإن
الله سبحانه وتعالى أمرنا بذكره، وأثنى على الذاكرين ووعدهم أجرًا عظيمًا،
فأمر بذكره مطلقًا،
وبعد الفراغ من العادات، قال تعالى: {فَإِذَا
قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِكُمْ}
قال: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} .
وأمر
بذكره أثناء أداء مناسك الحج خاصة ، فقال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم
مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}
وقال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}
وقال تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} .
وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر
الله)وقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ
ذِكْرًا كَثِيرًا. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} .
ولما كان أفضل الذكر
كلمة
لا إله إلا اله وحده لا شريك له - كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال:
(خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من
قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل
شيء قدير)
ولما كانت هذه الكلمة العظيمة (لا إله إلا الله)
لها هذه المنزلة العالية من بين أنواع الذكر ، وتتعلق بها أحكام ، ولها شروط ، ولها معنى ومقتضى، فليست كلمة تقال باللسان فقط -
لما
كان الأمر كذلك آثرت أن تكون موضوع حديثي في هذه الكلمة المختصرة ، راجيًا
من الله تعالى
أن يجعلنا وإياكم من أهلها المستمسكين بها والعارفين
لمعناها، العاملين بمقتضاها ظاهرًا وباطنًا.
وسيكون حديثي عن الكلمة في حدود النقاط التالية:
مكانة لا إله إلا الله في الحياة
وفضلها
وإعرابها
وأركانها وشروطها
ومعناها ومقتضاها
ومتى ينفع الإنسان التلفظ بهذه الكلمة ومتى لا ينفعه ذلك
وثمراتها .
فأقول مستعينًا بالله تعالى
مكانة هذه الكلمة :: لا إله إلا الله ::
إنها كلمة يعلنها المسلمون في أذانهم وإقامتهم وفي خطبهم ومحادثاتهم.
وهي كلمة قامت بها الأرض والسماوات
وخلقت لأجلها جميع المخلوقات
وبها أرسل الله رسله
وأنزل كتبه
وشرع شرائعه.
ولأجلها نصبت الموازين
ووضعت الدواوين
وقام سوق الجنة والنار
وبها انقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار
فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب
وهي الحق الذي خلقت له الخليقة
وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب
وعليها يقع الثواب والعقاب
وعليها نصبت القبلة
وعليها أسست الملة
ولأجلها جردت سيوف الجهاد
وهي حق الله على جميع العباد
فهي كلمة الإسلام
ومفتاح دار السلام
وعنها يسأل الأولون والآخرون.
فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين: " ماذا كنتم تعبدون، وماذا أجبتم المرسلين؟ "
وجواب الأولى: بتحقيق لا إله إلا الله معرفة وإقرارًا وعملاً.
وجواب الثانية: بتحقيق أن محمدًا رسول الله معرفة وانقيادًا وطاعة.
هذه
الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام ، وهي كلمة التقوى والعروة الوثقى،
وهي التي جعلها إبراهيم:
{كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28]
وهي
التي شهد الله بها لنفسه وشهد بها ملائكته وأولو العلم من خلقه، قال
تعالى:
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]. (1)
وهي
كلمة الإخلاص وشهادة الحق ، ودعوة الحق، وبراءة من الشرك،
ولأجلها خلق
الله الخلق، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ
لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
ولأجلها
أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ
مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا
فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]
وقال
تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن
يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ
فَاتَّقُونِ} [النحل: 2].
قال ابن عيينة: ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرفهم لا إله إلا الله.
وإن لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا (2)
فمن
قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه هدر؛ ففي الصحيح عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال:
(من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون
الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله) [انظر مسلم، الحديث برقم
(23) .]
وهي
أول ما يطلب من الكفار عندما يدعون إلى الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه
وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له:
(إنك ستأتي قومًا من أهل الكتاب،
فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله)، الحديث أخرجاه في
الصحيحين [رواه البخاري (5/109) .].
وبهذا تعلم مكانتها في الدين وأهميتها في الحياة، وأنها أول واجب على العباد؛ لأنها الأساس الذي تبنى عليه جميع الأعمال.
وأما فضــل هذه الكلمة
فلها فضائل عظيمة ولها من الله مكان
من قالها صادقًا أدخله الله الجنة
ومن قالها كاذبًا حقنت دمه وأحرزت ماله
وحسابه على الله عز وجل
وهي كلمة وجيزة اللفظ
قليلة الحروف
خفيفة على اللسان
ثقيلة في الميزان
فقد
روى ابن حبان والحاكم وصححه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال:
(قال موسى: يا رب علمني شيئًا أذكرك
وأدعوك به، قال: يا موسى، قل: لا إله إلا الله، قال: كل عبادك يقولون
هذا،
قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع
في كفة، ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله)
[رواه ابن
حبان (صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان). طبعة مؤسسة الرسالة -
الثانية 1414 هـ، الحديث برقم (6218) (موارد الظمآن) .].
فالحديث يدل على أن لا إله إلا الله هي أفضل الذكر.
وفي
حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما
قلت أنا والنبيون من قبلي:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك
وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) رواه أحمد والترمذي [رواه الترمذي،
الحديث برقم (3585) .]
ومما
يدل على ثقلها في الميزان أيضًا ما رواه الترمذي _ وحسنه _ والنسائي
والحاكم _ وقال:
صحيح على شرط مسلم _ عن عبد الله بن عمر، قال النبي صلى
الله عليه وسلم: (إن الله سيخلص
رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم
القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر،
ثم يقول:
أتنكر من هذا شيئًا؟! أظلمك كتبتي الحافظون، فيقول: لا يا رب، فيقول
أفلك عذر؟! فيقول: لا يا رب
. فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، فإنه
لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد
أن محمدًا عبده ورسوله،
فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه
البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تُظْلَم، قال: فتوضع السجلات
في كفة
، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة) [رواه الترمذي،
الحديث برقم (2639) .].
ولهذه الكلمة العظيمة فضائل كثيرة
ذكر جملة منها الحافظ ابن رجب في رسالته المسماة (كلمة الإخلاص) واستدل لكل فضيلة، ومنها:
أنها ثمن الجنة
ومن كانت آخر كلامه دخل الجنة
وهي نجاة من النار
وهي توجب المغفرة
وهي أحسن الحسنات
وهي تمحو الذنوب
وهي تخرق الحجب حتى تصل إلى الله عز وجل
وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها
وهي أفضل ما قاله النبيون
وهي أفضل الذكر
وهي أفضل الأعمال
وأكثرها تضعيفًا
وتعدل الرقاب
وتكون حرزًا من الشيطان
وهي أمان من وحشة القبر وهول الحشر
وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم.
ومن فضائلها:
أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
ومن فضائلها:
أن أهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقها فإنهم لا بد أن يخرجوا منها.
هذه عناوين الفضائل التي ذكرها ابن رجب في رسالته واستدل لكل واحد منها (3)
إعرابها وأركانها وشروطها
إعراب لا إله إلا الله
إذا كان فهم المعنى يتوقف على معرفة إعراب الجمل.
فإن العلماء رحمهم الله قد اهتموا بإعراب لا إله إلا الله .
فقالوا:
إن لا - نافية للجنس -
وإله اسمها مبني معها على الفتح، وخبرها محذوف تقديره: (حق) أي لا إله حق إلا الله
و (إلا الله) استثناء من الخبر المرفوع
والإله معناه: المألوه بالعبادة، وهو الذي تألهه القلوب وتقصده رغبة إليه في حصول نفع أو دفع ضرر.
وأما أركان لا إله إلا الله
فلها ركنان
الركن الأول النفي
والركن الثاني الإثبات .
والمراد بالنفي : نفي الإلهية عما سوى الله تعالى من سائر المخلوقات.
والمراد
بالإثبات: إثبات الإلهية لله سبحانه فهو الإله الحق، وما سواه من الآلهة
التي اتخذها المشركون
فكلها باطلة، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:
62].
قال
الإمام ابن القيم : فدلالة لا إله إلا الله على إثبات إلهيته أعظم من
دلالة قوله: الله إله؛ وهذا لأن قول (الله إله) لا ينفي إلهية ما
سواه.
بخلاف
قول: لا إله إلا الله، فإنه يقتضي حصر الألوهية في الله، ونفيها عما
سواه، وقد غلط غلطًا فاحشًا من فسر الإله بأنه القادر على الاختراع.
قال
الشيخ سليمان بن عبد الله في " شرح كتاب التوحيد ": فإن قيل: قد
تبين معنى الإله والإلهية،
فما الجواب عن قول من قال بأن معنى الإله:
القادر على الاختراع، ونحو هذه العبارة ؟
قيل: الجواب من وجهين:
أحدهما:
أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة، وكلام
العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم، فيكون هذا القول باطلاً.
الثاني:
على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للإله الحق، فإن اللازم أن يكون
خالقًا قادرًا على الاختراع
، ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق وإن سمي إلها،
وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع
فقد دخل في الإسلام
وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام فإن هذا لا يقوله أحد؛ لأنه يستلزم
أن يكون كفار
العرب مسلمين، ولو قدر أن بعض المتأخرين أراد ذلك فهو مخطئ
يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية (4)
وأما شروط لا إله إلا الله
فإنها لا تنفع قائلها إلا بسبعة شروط
الأول: العلم بمعناها نفيًا وإثباتًا.
الثاني: اليقين وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب .
الثالث: الإخلاص المنافي للشرك .
الرابع: الصدق المانع من النفاق .
الخامس: المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه والسرور بذلك.
السادس: الانقياد بأداء حقوقها وهي الأعمال الواجبة إخلاصًا لله وطلبًا لمرضاته.
السابع: القبول المنافي للرد. (5)
وهذه الشروط قد استنبطها العلماء من نصوص الكتاب والسنة التي جاءت بخصوص هذه الكلمة العظيمة وبيان حقوقها وقيودها
معنى هذه الكلمة ومقتضاها
معنى
لا إله إلا الله: أي: لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا
شريك له، فتضمنت
هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى الله من سائر المعبودات ليس
بإله حق وأنه باطل .
ولهذا كثيرًا ما يرد الأمر بعبادة الله مقرونًا بنفي عبادة ما سواه؛ لأن عبادة الله لا تصح مع إشراك غيره معه .
قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} .
وقال
تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256 ] .
وقال
تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ
اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وقال
صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون
الله حرم ماله ودمه) [انظر مسلم، الحديث برقم (23) .] الحديث
.
وكان كل رسول يقول لقومه: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]
إلى
غير ذلك من الأدلة، قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وتحقيق هذا المعنى
وإيضاحه أن قول العبد:
لا إله إلا الله يقتضي أن لا إله له غير الله،
والإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالاً،
ومحبة وخوفًا ورجاءً
وتوكلاً عليه وسؤالاً منه ودعاءً له ولا يصلح لذلك كله إلا الله عز وجل.
ولهذا
لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: (قولوا: لا إله إلا
الله) [رواه الإمام أحمد في المسند،
الطبعة الميمنية 3 / 492، والترمذي
في سننه، طبعة دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق أحمد شاكر، الحديث برقم
(3232) .].
قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]
ففهموا من هذه الكلمة :
أنها تبطل عبادة الأصنام كلها
وتحصر العبادة لله وحده وهم لا يريدون ذلك .
فتبين
بهذا المعنى أن معنى لا إله إلا الله ومقتضاها: إفراد الله بالعبادة
وترك عبادة ما سواه، فإذا قال العبد:
لا إله إلا الله، فقد أعلن وجوب
إفراد الله بالعبادة وبطلان عبادة ما سواه من الأصنام والقبور والأولياء
والصالحين.
وبهذا
يبطل ما يعتقده عباد القبور اليوم وأشباههم من أن معنى لا إله إلا الله:
هو الإقرار بأن الله موجود أو
أنه هو الخالق القادر على الاختراع وأشباه
ذلك. أو أن معناها: لا حاكمية إلا لله. ويظنون أن من اعتقد ذلك
وفسر
به لا إله إلا الله فقد حقق التوحيد المطلق، ولو فعل ما فعل من عبادة غير
الله والاعتقاد بالأموات والتقرب
إليهم بالذبائح والنذور والطواف بقبورهم
والتبرك بتربتهم.
وما
شعر هؤلاء أن كفار العرب الأولين يشاركونهم في هذا الاعتقاد، ويعرفون أن
الله هو الخالق القادر على الاختراع
، ويقرون بذلك، وأنهم ما عبدوا غيره إلا
لزعمهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، لا أنهم يخلقون ويرزقون.
ولو
كان معنى لا إله إلا الله ما زعمه هؤلاء لم يكن بين الرسول صلى الله عليه
وسلم وبين المشركين نزاع،
بل كانوا يبادرون إلى إجابة الرسول صلى الله عليه
وسلم إذا قال لهم بزعم هؤلاء: أقروا بأن الله هو القادر
على الاختراع،
لكن القوم _ وهم أهل اللسان العربي - فهموا أنهم إذا قالوا: (لا إله
إلا الله) فقد أقروا،
ولهذا نفروا منها، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ
إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]
كما
قال الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا
آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} [الصافات: 35، 36].
فعرفوا
أن لا إله إلا الله تقتضي ترك عبادة ما سوى الله، وإفراد الله بالعبادة،
وأنهم لو قالوها واستمروا
على عبادة الأصنام لتناقضوا مع أنفسهم، وعباد
القبور اليوم لا يأنفون من هذا التناقض الشنيع فهم يقولون لا إله إلا الله،
ثم ينقضونها بعبادة الأموات والتقرب إلى الأضرحة بأنواع من العبادات،
فتبًا لمن كان أبو جهل وأبو لهب أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
والحاصل
أن من قال هذه الكلمة عارفًا لمعناها عاملاً بمقتضاها ظاهرًا وباطنًا من
نفي الشرك وإثبات العبادة لله مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته والعمل به فهو
المسلم حقًّا.
ومن
قالها وعمل بمقتضاها ظاهرًا من غير اعتقاد لما دلت عليه فهو المنافق، ومن
قالها بلسانه
وعمل بخلافها من الشرك المنافي لها فهو الكافر ولو قالها آلاف
المرات؛ لأن عمله يبطل نطقه بها،
فلا بد مع النطق بهذه الكلمة من معرفة
معناها؛ لأن ذلك وسيلة للعمل بمقتضاها، قال تعالى: {إِلاَّ مَن شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]
والعمل بمقتضاها وهو ترك عبادة ما سوى الله وعبادة الله وحده هو الغاية من هذه الكلمة.
متى ينفع الإنسان قول لا إله إلا الله
سبق أن قلنا: إن قول: لا إله إلا الله لا بد أن يكون مصحوبًا بمعرفة معناها والعمل بمقتضاها،
ولكن
لما كان هناك نصوص قد يتوهم منها أن مجرد التلفظ بها يكفي، وقد تعلق
بهذا
الوهم بعض الناس فاقتضى الأمر إيضاح ذلك لإزالة هذا الوهم عمن يريد الحق،
قال
الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله على حديث عتبان الذي فيه: (فإن
الله قد حرم على النار من قال:
لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)
[الحديث رواه البخاري (1/110)، ومسلم، الحديث برقم (33) .]
قال:
اعلم أنه قد وردت أحاديث ظاهرها أنه من أتى بالشهادتين حرم على النار،
كهذا الحديث، وحديث أنس قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه
على الرحل، فقال: (يا معاذ)، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك،
قال:
(ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا
حرمه الله على النار) [رواه البخاري (1 / 41)، ومسلم، الحديث برقم
(32) واللفظ له .]
ولمسلم
عن عبادة مرفوعًا: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله
حرم الله عليه النار) [رواه مسلم، الحديث برقم (29) .].
ووردت
أحاديث فيها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة وليس فيها أنه يحرم على
النار، منها حديث عبادة الذي
تقدم قريبًا وحديث أبي هريرة: أنهم كانوا مع
النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. الحديث، وفيه: فقال
رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا
يلقى الله بهما عبد غير شاكّ فيحجب عن الجنة)، رواه مسلم [رواه مسلم
برقم (27) .].
قال:
وأحسن ما قيل في معناه ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: إن هذه
الأحاديث إنما هي فيمن قالها
ومات عليها كما جاءت مقيدة، وقالها خالصًا من
قلبه مستيقنًا بها قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين،
فإن
حقيقة التوحيد انجذاب الروح على الله جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله
خالصًا من قلبه دخل الجنة؛
لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن
يتوب من الذنوب توبة نصوحًا فإذا مات على تلك الحال نال ذلك،
فإنه
قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان
في قلبه من الخير ما يزن شعيرة
وما يزن خردلة وما يزن ذَرَّة، وتواترت بأن
كثيرًا ممن يقول لا إله إلا الله، يدخل النار ثم يخرج منها،
وتواترت بأن
الله حرم النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون
لله،
وتواترت
بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، ومن يشهد أن لا إله إلا الله
وأن محمدًا رسول الله،
ولكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها
لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى
عليه أن يفتن عنها عند
الموت فيحال بينه وبينها، وأكثر من يقولها تقليدًا، وعادة لم يخالط الإيمان
بشاشة قلبه
، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في
الحديث أن أحدهم يقول: (سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته)
[رواه
البخاري (1 / 30)، ومسلم، الحديث برقم (905) .].
وغالب
أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم ، وهم أقرب الناس من قوله
تعالى عن المشركين:
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا
عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]
وحينئذ
فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه
الحال مصرًّا على ذنب أصلاً،
فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب
إليه من كل شيء، فإذن لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله
ولا كراهية لما
أمر الله، وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا
الإيمان، وهذه التوبة،
وهذا الإخلاص، وهذه المحبة، وهذا اليقين لا تترك له
ذنبا إلا يمحى كما يمحى الليل بالنهار. انتهى كلامه رحمه الله (6)