أختفي خلف حصون خضراء..فتعاتبني الرّياح لاختفائي، أحاول
أن أصدّ الرّياح عنّي ولكنّها تعاود الهيجان، تعصفني، ولكنّني
لا أنحني! تسربلني بأشواك المرّ، ولكنّني
لا أنحني! فصمتي هو ذاتي ولا أقبل الرّحيل إلّا مع صمتي..
تسكنني هواجس النّسيم، تبعثرني
جفون الرّحيل بين عيونها، ولكنّني لا أرحل إلّا مع صمتي..
حياتنا هي أشكال وألوان، فكلّ شكل قد اختار
لذاته لونا، وأنا ما أبيتك إلّا لأنّني أريد ذات شكلي وذات لوني..
قد تدبّ الرّياح على عيوني لتجعلها صامتة وعمياء، لا تتكلّم
إلّا عن الشيء، ولا ترى إلّا ذاك الشّيء، ولكنّني
لم أتعلّم الصّمت أمام الرّياح، ولن أكون عمياء وسط هيجانها..
تعاتبني الرّياح لأنّني لم أنصاع يوما لجهرتها، تعاتبني الرّياح
لأنّني كنت رياحا لا تحمل الأشواك، تعاتبني الرّياح لأنّني اخترت
حبّي لله، حبّي للدّين، حبّي للنّاس، حبّي للوطن، حبّي للتّغيير،
وما اخترت حبّها يوما،
لأنّني ما اعتدت أن أنحني لها، وما اعتدت يوما أن أكون لها..
تحاول تلك أن تجعلني نقطة في متاهة، تتبعثر في متاهتي تساؤلات
لا تلقى لها إجابات، لم تعاتبني الرّياح؟ لم تحاول عكس اتّجاهي
في المسير؟ فأنا أسير في طريق أخضر تتناثر من جوانبه الورود،
ولكنّه يجيء كلّ يوم ليسقيها ماء الورود،
فيدفعني الرّفض للرّفض، لأنّني لا أنحني..
أيقظني السّراج من عتمة العدم، خبّأتني النّجوم من حلكة بريقها
لأنحني، لأكون الآخر، لأكون كما هم كانوا، وكما هي الآن،
ولكنّني اعتدت أن أصدّ التّلوّن
ذا بكفة يدي بقول "لا"، فذاك يكفيني، لأنّ صمتي هو ذاتي..
خلف تلك الأسوار يكمن قلبي، خلف التّراب يدفن صوتي
، خلف الصّمت أكون أنا، وفي ذات الذّات يكون موتي
، فخاتمة الأشياء عندي هي الأشياء، وبداية
الأشياء هي لا أشياء، فالخاتمة هي بدايتي، وبدايتي هي نهايتي.
ها أنا ذا في نقطة لم تكن في الأمس في مكانها، لم تختر يوما
إلّا أن تدور في دائرتها، لم تتوقّف عن سرج
أقدامها في المسير، ولكنّ الرّياح تعاتبني، ولكنّني لا أنحني..
قال لي جدّي يوما: "سيري"، فلا بدّ أن أسير، وأن أصير
، أن أقاوم، وأن أخذل كلّ من أراد منّي أن أكون
منحنيّة للرّياح؛ خاضعة لها، فما هكذا تعوّدت يا رياح الشّرق!
في بادئ رحلتي في العمر كنت طفلة، طفلة لم يلفعها ثوب
الشّر، فشاء لي القدر أن أكون، فكنت بعد صغري
أنا، فتلوّن هذا الثّوب لنصفين، فالنّصف الأوّل كان أنا والثّاني أنا..
عبثت بالأشياء لإدراكي أنّ الرّياح لن تمسّها بالأشياء، ولكنّها
جاءت لي يوما وعاتبتني، حاولت قتلي لتجعلني مشرّدة الذّات
ومعلّقة في فضاءها إلّا أن ينفكّ حصارها عنّي، ولكنّني ما اعتدت أن أنحني..
جبان هو، وما جبنه إلّا وصمة في وسائد السّنين، فهو ما اعتاد
إلّا النّوم على وسائد لا توقظه من جبنه
، ولكنّ الرّياح، تلك هي الّتي ستوقظه، تلك هي، لأنّه هو هي.
وما زلت لا أنحني ولا أنحني، لأنّني أنا هي أنا..