أمامهُ صَمَتَتْ جَميعُ الكَواكِب .. وَانْصَهَرَتْ جَميعُ المُكوناتْ الكيميائِيةْ .. وَتَجَمَدَت أشكال التَعددْ اللَّغَوي .. وَالثَّقافي .. وَقُتِلتْ الكَلِمات وَالمَعاني .. وَتَجَمَّدَتْ حَيوِيَتها وَحَرَكتِها .. وَتَحَطَّمتْ القُيود .. وَتَوَقَّفَتْ المَعاجِم وَالقَواميسْ .. وَبَقِيَ وَميضَهُ فَوقَ النُجومِ .. وَالسَحابْ .. وَانتَصَف اللَّيل .. وَظَهرَ القَمَرُ .. وَتَلَألأَ في سَمائِيْ .. وَاسْتَدارَ نِصفُ استِدارَة .. وَنامَتْ الأفْلاكْ .. وأخْتبأتْ مَصابيحُ الضِياءْ في دَهاليز الروحْ .. وانمَحَت جَميع القَوافي وَالأَشعارْ ..
وَصَرَخَ الحَجَر في هَذَيانْ .. وَتَشَرنَقَتْ بِهِ الخُيوط .. وَرَنَّ ناقوسي .. وَغُلِقَّت الأبوابْ .. وَدَقَّتْ الساعاتْ .. وَأَجْراسَ الكَنائِس .. وَبَكى المَسيح بحُرقَة .. وَذابَت الشُموع .. وتبللَّت أَنامِلي بِنَدى الجوريْ .. وَتَشَبَثَت عُيونِنا بالمَسافات .. وَزينَّ الأفُق صَدرَ السَماء .. فأَصْبَحَت أَنْقى .. وَشَرِِبَتْ مِنْ بَحر عَينَيهِ البِحارْ .. وَتَضرَعت الصَوامِع لله .. في العُلا وَعَلى الأرض .. وَانثَقَبَ مِنهُ الأوزون .. وَفي كَفَيْهِ الناعِمَتَينِ غَفَتْ قِطعةَ حَلقومٍ .. كُلُّ قِطعةٍ مِنْها عَلى هَيْئَةِ نَجْمةْ .. رُؤوسِها لآمُتَناهِيَةْ .. وَعادَتْ العُطور لِلأَزْهار .. والهَديْر للأنهار .. والثِمار للميدان .. وَامْتَلَأت الرُبوع .. وَسالَتْ بِهِ الأودِيَة .. وَمِن مُقلَتاهُ أَسْقاني زَهْرُ اللَّوزِ .. وَمِنْ أنْفاسَهُ الدافِئَةْ احتُرِقَت وجنتايَ باللَّهيب ..
وَفَوقَ رُموشِ عَينيهِ أمْطَرَت أشلاءُ عطرٍ .. وَفَقَدتُ جميعَ اللُغاتِ بَعدهُ .. وبَدَأتْ الأكورْديون وَالكْلارِينْت وَالفلوتْ وَالكِيتارْ وَالساكْسفونْ وَالكَمانْ تَعْزِفُ لَحْنًا موسيقِيًا تَخرُجَ مِنهُ أنغامًا وَايقاعات راقِصَةً وقَويَّة .. وَدَقّت الطُّبولْ .. وَعَزَفَتْ المَزامير وَالرباباتْ وَالنايات .. وَقَبَلتَهُ تسعةً وَتِسعون قُبلَةً حَتى سَكِرتُ صمتًا وَحُبًا من ريقهُ، كَما سَكِرَت الأناقة وَالعُطور مِن رِضاب ثَغرِهِ .. وتَجَمد فَوقَهُ السُكر .. وَتَعرَّقت زُهور العَطاس وَالزَنبقُ الأبيَض وَشَقائِقُ النُعمان .. وَزُهور الأوركيد وَالقُرُنفُل وَالأُقحُوان وَازدادت الجَواهِر وَالمُرجان وَالياقوت واللُؤلُؤ وَالعَقيق والفَيروز وَالذَهَب وَالفِضة ..
وَالألماس وَالزُمرُد لَمَعانًا .. فَما أَجْمَلُ أنْ أَموتَ صَمتًا في بَحر عَينَيه وَهُوَ يَشرِقُ باهِتًا مُلتاعًا أَو أَكونَ شَهيدةً في هَواهُ قَبلَ أن يَفتَرِسنا عَصرُ الجُنون وَقَبلَ أن يُصارعُنا التَيار والأمواج الصاخبة وَقَبلَ أن تَتَغَيَّر آرائي وَتَتَبَلوَر وَيُقرَض الشِعر وَيَتحول الى جُثة ..